السبت، 10 أكتوبر 2009

المواطنه !! كيف ؟؟ ولماذا ؟؟ بقلم الأستاذ محمود عبد الحى


وكالعادة نتوقف أمام اللفظ قبل أن نتورط في كتابة مطولة, نتوقف لنبحث عن المعني الكامن في هذه الأحرف وكيف تطور تاريخيا واجتماعيا.ونبدأ لنكشف أن مواطنة هو تصريف مفاعلة من كلمة وطن, لكن هذا يزيد الأمور تعقيدا, فالبعض يري أن العرب عرفوا الوطن معرفة مبسطة فهو مجرد مقر اقامة, مستندين الي الشرح القاموسي لكلمة وطن, ففي قاموس لسان العرب, نجد أن الوطن هو محل اقامة الإنسان الوطن هو المنزل الذي نقيم به وهو موطن الإنسان ومحله, ويقال أوطن فلان أرض كذا أي اتخذها محلا وسكنا, ويكاد هذا التعريف أن يتطابق مع مختلف القواميس العربية( مختار الصحاح ـ الوسيط.. الخ).ولعل هذا التعريف قد أتي إلينا من زمان يسبق قيام الدولة/الوطن, ففيما قبل الدولة البرجوازية كان تعريف الوطن هو تلك المساحة من الأرض التي تقيم فيها جماعة من البشر يكونون قبيلة أو جماعة عرقية أو دينية.ويمكن القول إن نشأة الدولة البرجوازية كان بداية فكرة الوطن بمفهومها الحالي, فالنظام الاقطاعي كان ينفي إمكان توحد الدولة, ومن ثم توحد المواطنين تحت رايته, كذلك يمكن القول إن الثورة الفرنسية هي التي وضعت أسس المواطنة بمفهومها الحديث.فالمادة16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن(1793) إن علي القانون أن يتعامل بمساواة كاملة مع الجميع, وقبلها بأربع سنوات كان الإعلان الذي يؤكد البشر يولدون ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق, ولخصت الثورة الفرنسية كل توجهها في مسألة المواطنة في ثلاث كلمات حرية ـ إخاء ـ مساواة والمساواة ليست فقط بين أبناء الوطن الفرنسي وانما بين كل السكان أيا كان بلدهم الأصلي, فثمة نص في الإعلان يقول كل إنسان ولد وسكن في فرنسا له ذات حقوق المواطن الفرنسيويلخص مونتسكيو وجان جاك روسو مفهوم المواطنة في تكوين حالة من الارادة العامة للسكان التي تفرض إنشاء سلطة مشتركة وليست فردية تفرض قانونها الذي تم اعداده بحرية وعلي أساس من التكافؤ, علي الجميع وعلي قدم المساواة, وهكذا فإن أساس المواطنة هو قيام دولة ذات قوانين وممارسات عادلة ويخضع لها الجميع علي قدم المساواة, وعلي هذا الأساس يمكن أن نفهم قول هوبز الإنسان يصير مواطنا في علاقته مع الدولة, ذلك أن مفهوم المواطنة يعتمد علي وجود دولة لها سلطة وقوانين وتقوم بتنفيذ القانون في إطار نظام اداريولأن الأمر كان مفترضا لأنه لم تكن هناك مشكلات متعلقة بحقوق الأقليات الدينية أو العرقية, فإن هوبز اكتفي بذلك دون أن يشير الي المساواة الكاملة أمام القانون التي كانت أساس الثورة الفرنسية, لكن الثورة الفرنسية كانت تعني بالمساواة.. العلاقات المتكافئة والمتساوية بين المواطنين فقراء وأغنياء, حكاما ومحكومين رجالا ونساء, ولو أن مفكري الثورة الفرنسية عاشوا في زماننا لأضافوا بالضرورة المساواة بين أبناء الديانات المختلفة والمساواة في الخدمات بين المحافظات المختلفة, ولاعتبروا أن موضوع مساواة المرأة في جميع الحقوق والواجبات أمر ضروري, أي أننا كلما رجعنا للأصل وجدنا حاجة ملحة الي امتداد خط المساواة علي استقامته, ولعل ذلك يدفعنا الي العودة للمارسيلييز النشيد الوطني لفرنسا منذ الثورة وحتي الآن, ونقرأ هيا يا أبناء الوطن جميعا, تحركوا, احملوا السلاح, فاليوم يوم الانتصار وتعالوا نمنح كل الحب للوطن, وهكذا الجميع يتحركون, يقاتلون, ينتصرون ويعشقون الوطن.واذا رجعنا الي الانسكلوبيديا الأمريكية نكتشف أن مفهوم المواطنة الأمريكية يتسع ليضمن حقوق متساوية لمهاجرين أتوا في مجموعات كبيرة من عديد من البلدان, ومن ثم اتسع محققا أيضا وفي ذلك الوقت المساواة الكاملة بين الجميع, ومع الحاجة في الحد من هجمات الهجرة الجماعية صدر عام1925 قانون يمنع الهجرة الجماعية ويحرم المواطن من الجنسية اذا حصل طوعا علي جنسية أخري أو خدم في جيش بلد آخر, لكن المحكمة العليا أصدرت حكما شهيرا في عام1967 مؤداه لا يجوز سحب الجنسية من مواطن أمريكي إلا بإرادته الحرة.لكننا يتعين علينا ولكي نتفهم كل ما سبق وكل ما سيأتي أن نعود الي أصل كلمة مواطن سواء في أثينا أو روما القديمتين, ففي كلا البلدين كانت المواطنة والمساواة محصورة فقط بين الصفوة, أما العبيد والنساء والغرباء والذين لا يمتلكون عقارا فليسوا مواطنين بالمعني المفهوم.وكان ثمة فارق بسيط بين مواطنة أثينا التي تستند الي مايمكن وصفه بأنه مساواة بين المتساوين أي بين أفراد من النخبة التي تمثلها قبائل أثينا العشر والتي تستبعد من إطارها غير المتساوين, أي النساء والعبيد وغير الملاك, وبين مواطنة روما فقد قامت علي أساس العمل المشترك من أجل تحقيق المصالح المشتركة, والمصالح المشتركة هذه تفرض نفسها علي الجميع كحزمة متكاملة لا يجوز الانتقاص منها.وقد حاول البعض في بدايات الثورة الفرنسية أن يفلسفوا تداخل الدين في السياسة وفي إدارة الدولة, فقالوا إن أصل فكرة الوطن والمواطنة قد أتت عبر ثلاث مدن وليس اثنتين, وأضافوا أورشليم باعتبارها رمزا للكاثوليكية. لكن آليات الثورة الفرنسية استبعدت هذا الافتراض, فقد رفضت اعتبار الدين أحد معايير المواطنة, فالجميع وبغض النظر عن العقيدة الدينية يتساوون في الحقوق, فإعلان حقوق الإنسان(1789) ينص أن المساواة تفرضها الطبيعة.ويمكن القول إن فكرة المواطنة الغربية قد لخصها كلولوفور في قوله لا يوجد إنسان واحد فائض عن الحاجة فالوطن يضم الجميع ويحتاج الجميع.ثم.. نتحدث عن مصر... يحاول البعض من دعاة التأسلم السياسي الإيحاء بأن سكان هذا المكان المسمي مصر كانوا في الماضي أكثر إسلاما وأكثر إيمانا لأنهم تمسكوا بتبعيتهم لدولة الخلافة العثمانية ورفضوا النهوض بالدعوة لمصرية هذا الوطن ومصرية مواطنيه.. وينسي هؤلاء ـ عن عمد أو بغيره ـ أن مفهوم الوطن والمواطنة هو مفهوم حديث, نشأ بنشأة الدولة الحديثة ذات الإدارة المركزية التي تلتزم بقانون يفترض أن يفرض المساواة بين جميع السكان, ولم تكن هذه النشأة مرتبطة فقط بنشأة الإدارة المركزية فقد وجدت الإدارة المركزية, في مصر منذ عهد مينا, وإنما يرتبط بها نشأة اقتصاد وسوق موحدان وعوامل أخري عديدة منها المصالح المشتركة التي تربط السكان جميعا والتعليم والمواصلات والضرائب المركزية واللغة وغيرها من العوامل, ويمكن القول بأن الدين كان في بداية الأمر أحد العناصر المكونة لمنظومة نشوء الوطن, ففي فرنسا مثلا وقبل ثورة1789 كانت صفة المواطنة أي الجنسية لا تمنح إلا للكاثوليك بما كان يحرم البروتستانت واليهود من المواطنة,لكن الثورة اكتسحت هذه الأفكار لتفرض المفهوم العلماني القائم علي مشاركة جميع السكان في حقوق مواطنة متكافئة ومتساوية بغض النظر عن الدين والعرق والجنس.ولهذا فإن الذين يقولون إن كتابات رفاعة الطهطاوي كانت بداية الحديث عن الوطن والوطنية هم علي حق لكن عليهم أن يدركوا أن محمد علي قد أدخل علي هذه الرقعة من الأرض إصلاحات( صناعة ـ علوم ـ فنون ـ مدارس مدنية ـ جيش نظامي ـ إدارة مركزية ذات امتدادات محلية إلخ), ومن ثم أرسي دعائم الوطن المصري, ومن ثم المواطنة المصرية, وربما زاد من حماسه لذلك رغبته في الاستقلال بمصر.. كوطن مستقل عن الخلافة.وقبل هذه المرحلة كانت كلمتي مصر ومصري لا تكاد تذكر في كتابات المؤرخين, فابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور, وكذلك الجبرتي إذا كانا يتحدثان عن المصريين استخدما الأوصاف التالية أبناء البلد ـ أبناء الحارات ـ العوام ـ الذعر ـ الجعيدية ـ الفلاحين, بل وكانا يتحولان بالتسمية المصرية إلي المماليك فيسميانهم الأمرا المصرلية.وحتي كتاب التاريخ المحدثين مستشرقين ومصريين يقعون في الخطأ نفسه, فإذ يذكرون عصور تاريخ مصر يكتبون دون تحرج مصر اليونانية ـ مصر الرومانية ومصر الإسلامية, إلخ فمصر مجرد موقع جغرافي ينسب إلي حكام أجانب.وإذا كان محمد علي منهمكا في بناء دولة مصر الحديثة باذلا أقصي الجهد للاستقلال بها عن الباب العالي مؤكدا أن مصر جنة الله في الأرض ولو منحني الله ألف حياة غير حياتي هذه لبذلتها في سبيل حكم مصر, كان رفاعة الطهطاوي ينسج الأساس الفكري لمصر كوطن والمصريين كمواطنين, ونقرأ في كتاباته كثيرا عن الوطن ومصر والمواطنين, ونورد بعض أمثلة أن حاجة الوطن إلي المتعة الحقيقية أشد من حاجته إلي تقليد العرف الذي هو منفعة ظاهرية وأيضا أن البركة في هذه الدنيا قسمت عشرة أقسام اختصت مصر بتسع منها, وإذ يحاول الفرنسيون أن يوهموه بأن مصلحة مصر تتحقق غير سيطرة فرنسا عليها فإنه ينفي بشدة أن منافع مصر تقع موقع التحقيق لو دامت هذه المملكة في قبضة الفرنساوية, لكن ذلك مبني علي شبهة واهية وهي أن مصر يسوغ أن تصلحها فرنسا وهو يقول في موضع آخر إن الأمة المصرية أصعب ما علي نفوسها الانقياد للأغرابوهو يعتبر بتاريخ مصر مؤكدا أنه لم يكن بين الأمم مثل قدماء مصر في قوتهم وكانت خيولهم تسبق سالفا في الركض في ميادين الفخار والعلم وهو يرفض التفريط في الآثار التي كان شيوخ الأزهر علي زمانه يسمونها المساخيط مؤكدا حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم علي منوال أوروبا فهي أولي وأحق بما تركه لها سلفها ويقول إن مصر كانت أيام الفراعنة أم أمم الدنيا وكانت شوكة سلاحها قوية وهيبتها في القلوب متمكنة عليه وهي أم الحضارات ولم تسبقها في المدينة أمة أخري ثم ينتقل رفاعة من مصر الوطن إلي المواطنة التي تأتي بالضرورة عبر بوابة الدولة الحديثة التي تأخذ بالعدل والمساواة, فيترجم الدستور الفرنسي: م1 ـ سائر الفرنساوية متساوون قدام القانون.م2 ـ كل واحد منهم متأهل لأخذ أي منصب كان وأية رتبة كانت, وهو يدعو للحرية فهي الوسيلة العظمي لإسعاد الوطن فإذا بنيت علي قوانين حسنة وعدلية( عادلة) كانت واسطة في إسعاد الأهالي وسببا في حبهم لأوطانهم ويؤكد الحيرة قرينة المساواة والعدل, وهو يحلم برأي عام مصري قوي قائلا إن للرأي العمومي سلطان قاهر علي قلوب الحكام.. وهكذا يدرك رفاعة المعني الحقيقي للوطن وللموطنة, ويؤكد ما قاله مونتسكيو عن أن المصالح المشتركة بين المواطنين هي التي تخلق الرأي العام.ويعلم رفاعة تلاميذه حب الوطن ويلقنهم قيمة المواطنة, فينشد معهم كل صباح..مال المصري كذا دمهمبذول في شرف الوطنلكنه أيضا يلقنهم كراهية الظلم والظالمين.. فيترجم لهم نشيد المارسيلييز الفرنسيإلهي كيف يحكمنا ملوك.. يسبل العدل ليس لهم سلوكلكن غرس المواطنة لم يصمد طويلا أمام موج التأسلم.. وإلي لقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق