ظل موقف الحركات الإسلامية المعاصرة حيال "مسألة الديمقراطية"، موضع جدل واسع منذ ظهور هذه الحركات، الذي يؤرخ له بإعلان تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر عام 1928، ولا شك أن هناك إرهاصات سبقت هذه الجماعة، لكن لا يمكن اعتبار تلك المقدمات التي انحصرت في كتابات بعض الفقهاء المتشددين بداية فعلية لأي بحث جاد يتصدى لرصد مسار تلك الحركات بمعناها التنظيمي، الذي تبلور مع تراكم خبراتها حتى أصبحت "كيانات دولية" عابرة للحدود .
ولعله من نافلة القول التأكيد على أننا نسعى هنا لمعالجة "مواقف الحركات الإسلامية"، وبالتالي فإننا نتحدث عن المتأسلمين المتطرفين، وليس عن عموم المسلمين، باعتبار أن كافة هذه الجماعات أو الحركات، هي "جماعة من المسلمين"، وليست "جماعة المسلمين"، حتى لو تجرأت بعضها وزعمت ذلك كما حدث مع جماعة شكري مصطفى في مصر، التي اشتهرت إعلامياً بـ "التكفير والهجرة"، وكانت نواة مازالت قادرة على ضخ المزيد من مستنسخاتها على امتداد الخارطة الإسلامية، رغم اندثار الجماعة الأم في مصر وموت أبرز قادتها، لكنها ظلت "مدرسة في التكفير"، رغم ضألة آثار هذه الجماعة الفكرية، التي ربما انحصرت في كتيب لشكري مصطفى اسمه "الخلافة"، لكنها مازالت قادرة على إعادة إنتاج نموذجها.
يقودنا هذا إلى التماثل في إعادة إنتاج الخبرات الحركية، استناداً للأساس الفكري الذي تتبناه تلك الجماعات، باعتباره المرجعية المعتمدة لديها، وهو أيضاً مناط استقطاب العناصر الجديدة، والتفاف المؤيدين لها أو المتعاطفين معها.
من هنا يلزم أن ننبش في هذا الأساس، من خلال الآثار التي تركها منظرو هذه الحركات، دون الاعتداد كثيراً بالآراء الفردية التي تصدر من هذا الناشط أو ذاك، باعتبار أن مثل هذه الآراء تأتي عادة في سياق "المواءمات السياسية"، وتحت ضغوط ظرفية.
والبداية مع الإخوان وتحديداً مع أبرز منظريهم، سيد قطب الذي ينظر إليه بوصفه "العراب الأول" في هذا المضمار، لأنه وضع الأساس النظري والتأصيل الشرعي لـ"معالم في الطريق"، الذي سارت وتسير عليه عشرات الحركات حتى يومنا هذا، ففي هذا الكتيب بالغ الأهمية، يحسم سيد قطب الأمر، ليس فقط بالمصطلحات الأربعة التي أعاد إنتاجها من أدبيات أبو الأعلى المودودي، بل أيضاً ـ وهذا هو الأخطر ـ بمسألة تقسيم العالم إلى "دار الحرب"، و"دار الإسلام"، وهو بهذا كان أول من وضع الأساس الذي ارتكز عليه بعد عقود أسامة بن لادن حين قسم العالم إلى فسطاطين.
وينسف قطب فكرة "المواطنة" من أساسها، وهي اللبنة الأولى في أي حديث عن الديمقراطية، فالوطن عند قطب ـ ومن خرج من عباءته ـ هو العقيدة، و"جنسية المسلم عقيدته"، ومن هنا تصبح أي محاولة للالتفاف على هذا الأساس، هي من باب المراوغة، ذلك لأن تصوراً لدولة تميز بين مواطنيها على أسس عقدية، لا يمكن أن تكون ديمقراطية، وفي تصور قطب أن الاعتقاد وحده هو الوشيجة التي يمكن الاعتداد بها، وهو يؤكد ويؤصل ذلك بقوله "إن الإسلام جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله، فإذا انبتّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة، وأن هناك حزبا واحدا لله لا يتعدد، واحزابا أخرى كلها للشيطان وللطاغوت، وأن هناك طريقا واحدا يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه، وأن هناك نظاما واحدا هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية، وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو باطل، وأن هناك حقا واحدا لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال"، راجع كتابه (معالم .. ، ص 85) .
وكالات حصرية
ولأن الأصوليات تبدأ معاركها بالأسلحة الثقيلة: بالتكفير. فلا يعود مفيدا سجال فكري او حوار بين مختلفين بعد ان يسبق السيف العذل، يمضي قطب إلى ما هو أبعد من ذلك حين يقطع بلغة تقريرية صارمة في معرض تأصيله لاعتبار العمل الحركي من لوازم صحة إسلام المرء، فيقول إن "الإسلام ليس مجرد عقيدة، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته بوسيلة البيان، إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس، والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام"، (معالم، ص 50).
وهكذا يتمترس قطب خلف قراءته للنصوص المقدسة، في تفسيره الشهير (الظلال) حيث يؤصل لمسألة "الحاكمية" التي أفرد لها ولمسألة "الجاهلية" اهتماماً خاصاً في (المعالم)، فيقول: "إنّ الحكم لا يكون إلاّ لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ أن الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله أولى خصائص ألوهيته، سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة أو حزب أو هيئة أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية، ومن نازع الله أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة حتى بحكم هذا النص وحده". (الظلال، ج 4 ، ص 1990).
فأي حديث عن الديمقراطية في ظل هذه القراءة المتعسفة للنص، التي تجعل الحكم "مهمة إلهية"، وليست مجرد "فعل بشري" يمكن أن يكون موضع الخطأ والصواب والنقد، ومادام الأفراد والجماعات لا تستطيع ممارسة الحكم وفق تصوراتهم الخاصة، التي يطلق عليها "البرامج السياسية"، فكيف تكون هناك ديمقراطية مادام الأمر محكوماً بسقف تصورات مفكر له وزن كبير في التنظير والتعبير عن واقع وفكر ورؤية القائمين على شؤون طيف واسع من مختلف الحركات الإسلامية المعاصرة .
فهذه الذهنية التي تزعم بثقة امتلاك ناصية الحقيقة، تنطلق من إحساس زائف بامتلاك "الوكالة الحصرية لشؤون القداسة"، فهي لا تبتسر النصوص من سياقها التاريخي فحسب، وتستخدمها بطريقة انتقائية تضع النتائج قبل المعطيات، بل ويتصور هؤلاء أنه من الممكن استحضار العصور، وتكرار الأزمنة .
الفريضة الحاضرة
وبالطبع لا يتسع المجال هنا للتعرض لكافة طروحات سيد قطب، ولا حتى جانب منها، إذ أن مساهمات الرجل في هذا المضمار تتسع لعشرات من أطروحات الدكتوراه، وننتقل إلى مرحلة جديدة، وجيل الثمانينات من منظري الحركات الإسلامية، ونناقش هنا بعضاً من أطروحات محمد عبد السلام فرج، وهو من أبرز الأسماء في تاريخ تنظيم "الجماعة الإسلامية" المصرية، ولعب دورالعقل التنظيمي سنوات طويلة، كما كان يدعم هذا الدور باجتهادات فقهية ساعدته ثقافته الواسعة في العلوم الشرعية في التصدي لهذه المسائل، التي توجها بدراسة تعد من أهم الوثائق التاريخية الشاهدة على دموية تجربة هذا الجيل من الإسلاميين الحركيين، ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة، ولا أتجاوز الحقيقة لو زعمت وفي العالم أيضاً.
هذا الدراسة "الوثيقة" هي (الفريضة الغائبة)، التي أنجزها عام 1981 قبل اغتيال الرئيس الراحل السادات، وهي تشبه "معالم قطب" في ضآلة حجمها، كما تشبهها أيضاً في عظم أثرها، إذ يمكن الادعاء باطمئنان، بأن هذه الدراسة قرأها معظم أعضاء التنظيمين الأهم في الساحة المصرية، وهما (الجماعة الإسلامية)، و(تنظيم الجهاد)، بل وحتى الآلاف من المتعاطفين معهما، من دون الانضمام حركياً لأي منهما، فضلاً عن الباحثين والصحافيين المعنيين بهذا الملف، والنخب الأمنية التي تشارك في إدارة هذا الصراع.
السيرك السياسي
ويستهل فرج هذه الوثيقة بطرح سؤال مبكر يختصر به كثيراً من المقدمات، ويهون الطريق على أي باحث يتلمس أي ظل لالتقاء اشتراطات الديمقراطية ـ نظرياً أو عملياً ـ مع مثل هذه الطروحات، حين يتساءل فرج: "هل نحن نعيش في دولة إسلامية؟ من شروط الدولة أن تعلوها أحكام الإسلام وأفتى الإمام أبو حنيفة أن دار الإسلام تتحول إلى دار كفر إذا توفرت ثلاث شروط مجتمعة:
1- أن تعلوها أحكام الكفر.
2- ذهاب الأمان للمسلمين.
3- المتاخمة أو المجاورة. وذلك بأن تكون تلك الدار مجاورة لدار الكفر بحيث تكون مصدر خطر على المسلمين، وسبباً في ذهاب الأمن وأفتى الإمام محمد والإمام أبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ، بأن حكم الدار تابع للأحكام التي تعلوها، فإذا كانت الأحكام التي تعلوها هي أحكام الإسلام فهي دار إسلام، وإذا كانت الأحكام التي تعلوها هي أحكام كفر فهي دار كفر" (الفريضة، ص 25).
ويخلص فرج إلى نتيجة مؤداها أن الدولة المصرية ليست وحدها "دار كفر" بل ربما كل دول العالم ينطبق عليها هذا الحكم الذي تترتب عليه نتائج خطيرة منها أن كل "دار كفر" هي بالضرورة ـ عند هذا الفصيل من الحركيين ـ "دار حرب"، وبالتالي فإن قتالها أمر شرعي واجب، والتخلف عنه هو "فرار عند الزحف"، وهي من الكبار الموبقات.
وفي حالة القطيعة ـ وربما العداء ـ مع العالم هذه التي يؤسس لها فرج في وثيقته تلك، يصبح أي حديث عن الديمقراطية مما يوصف بـ "لغو القول"، ذلك لأن الدولة الديمقراطية جزء من العالم، وليست ركنا قصياً معادياً للجميع، ولا "مغارة أشرار" لا طاقة لهم بمحاربة العالم، ومع ذلك يناصبونه العداء .
وليس هذا بالطبع هو المعيار الوحيد الذي ينسف إمكانية تعايش هذا الفكر والخبرات التي أفرزتها جماعات الإسلام الحركي، مع أي نموذج لدولة ديمقراطية، تقوم على الأسس المتعارف عليها كتعدد الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والتداول السلمي للسلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، و..و.. الخ.
ومع هذا فإن هناك من يأتي من أقصى درجات الطيف الإسلامي مرونة، أو لنقل حنكة، مثل راشد الغنوشي، ليسعى لمحاولة تفكيك النتيجة التي نعبر عنها بالتأكيد على أنه لا يتصور وجود أي نظام ديمقراطي في ظل أي نموذج للدولة الدينية، لأن الأخيرة تميل بطبيعتها لأن تكون شمولية (توتاليتارية)، وهي نقيض الديمقراطية، لكن يبدو أن الغنوشي ليس معنياً إلا بما يعبر عنه بقوله "إن جوهر الديمقراطية الكامن في كونها وسيلة لجعل الإرادة الشعبية حرة ونافذة على المستوى السياسي، وليس معناها بوصفها منظومة قيم تمخضت عنها تجارب الغرب"، أي أن قبولها مشروط بتجريدها من كل ما لا ينسجم مع أحكام الإسلام، ومع قيمه ومبادئه ومقاصده، استناداً إلى أطروحات وقراءات تتفاوت في تشددها ومرونتها وقدرتها على المناورة، وهذا لا يتطلب معجزة فقط بل يحول الأمر ما يمكن وصفه بـ "السيرك السياسي" .
يبقى في الختام التأكيد على أن الأصوليات كلها تتذرع بالنصوص، وتستقوي بها، جميع الأصوليات تفعل ذلك، الإسلامية منها والمسيحية واليهودية وحتى الماركسية والقومية، ولكل منها نصه الجاهز، وكما تبرأ كارل ماركس، وهو حي، من الماركسية حين سمع أحد أتباعه يبشر بها، فقد رأينا وسمعنا وقرأنا عن مسلمين أشهروا سيوفهم في وجوه مسلمين آخرين، لهذا لم يحتمل الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية في زمنه، ما آل إليه وضع الأزهر، فنبه من خطر المعممين على الإسلام قائلاً:
ولست أبالي أن يقال محمد أبلّ أم اكتظت عليه المآثم
ولكن ديناً قد أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم
والله المستعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق