التعصب الاعمى عبثتُ يوماً بمؤشر الراديو أثناء فترة استرخاء، فاستقرّ المؤشر على برنامج ديني غير مسيحي دون قصدٍ منّي، فتوقفتُ عنده أستمع لمحاضرةٍ يلقيها أحدهم، واصلتُ الاستماع وقد أجاد المتحدّث في بعض ما قدّمه، وكنت أصغي بانتباه إلى كلّ كلمة يقولها. وفي لحظةٍ لم أتوقعها سمعتُ ما هزَّ مشاعري وآذى مسمعي، إذ في نهاية حديثه ختم المتحدّث خطابه بشتيمةٍ أصابتني في الصّميم وبلغةٍ عربيةٍ صريحةٍ شتم بها من سمّاهم بالنصارى الكفَّار!... والأغربُ أنه شتمَ من خلال إذاعةٍ رسميةٍ لبلده وتعرف ما يقوله، ومعي في عالمنا العربي أكثر من 23 مليون مسيحي ، يمكن لأي منهم أن يستمعَ صدفةً أو قصداً إلى ذلك الحديث الديني ويتأذى!... أغلقتُ الراديو، وقد انتهى البرنامج على كلّ حال، وقلتُ لنفسي: أيُ نفعٍ قدّمه صاحبنا هذا لمستمعيه غير زرع الإثارة التي لا يقرّها الدّين!.. فذكرني هذا بقصةٍ أخرى طريفة حدثت مع احد اصدقائى قبل سنوات خرجُ يوماً للقيام بمهمةٍ دينيةٍ في يوم جمعة ليلقى محاضرة دينية على جماعةٍ من المسيحيين، وبعدما باشرالسّير في سيارته قاصداً الكنيسة لاحظ أمامه في الطريق رجلاً يمشي متثاقلاً وينظرُ إلى الوراء باتجاه السيارة، فأدركُ أنه متعبٌ وبحاجة للعون، وكان الرجل ملتحٍ ويرتدي ثوباً أبيض وعمةً على رأسه، فتوقف بقربه وسأله: يا شيخ هل لي أن أخدمك بشيء؟ ففتح الباب وشكر وجلس بجانبه وتنهَّد وقال: خرجتُ منزعجاً من البيت والوقت يداهمني وأنا على نيّة أن أأمَّ اليوم بالمصلين في المسجد وأن ألقي خطبة الجمعة، فابتسمُ لهذه المصادفة الجميلة، وقال له: أتعرفُ أنك الآن في سيارة قسيس مسيحي ذاهب إلى كنيسته لكي يئمَ هو الآخر بجمعٍ من المصلين المسيحيين ويقدّم لهم خطبة الصلاة؟ كيف جمعتنا الأقدار لنلتقي معاً في مهمةٍ متشابهةٍ؟!... ففوجئ الرجل وابتسم وشكر وعبّر عن تقديره، وتواصلا بالحديث إلى مفترق طرقٍ فرعٌ منها يؤدي إلى جهة المسد، فطلب الشيخ التوقف للنزل، فأبى القس وقال، يبدو عليك التعب ولا بدّ من توصيلك إلى مدخل مسجدكَ وأصر حتى قبِل. ولمّا وصلنا إلى باب المسجد صافحه شاكراً وأقسم أنه سيضمن خطبة الجمعة بأن قسيساً مسيحياً حملني بسيارته وهو عالمٌ أنني مسلمٌ وأصرَّ أن يُوصلني إلى باب مسجد المسلمين!... وغاب الرجل وبقيت الذكرى تحملُ معها ما تحملُ من معانٍ أيها الأصدقاء: التعصّب يهدم جسوراً من التواصل يجب أن نقوّي بنيانها. وكلٌ منا مطالبٌ باحترام الآخر فلنصنع الوسائل التي بها يُبدي كلٌ منا محاسن معتقداته، أما التعصّب فيصنع العكس. التعصّب يرسمُ على وجه صاحبه جبيناً عبوساً، ولا سلام في عينيه، ولا سماحة على وجهه، وبعكس التعصّب المحبة تفرد الوجه وتلمس في عينيه إشراقة من الأمل وطيب المعشر فتحبه. لا أمل لعالمنا في غياب المحبة والتسامح واحترام الآخر. وأخيراً، لا بدّ من القول أن المتعصبين لهم تواجدٌ ملحوظٌ بين جميع الطوائف والديانات، والطيّبون لا شك متواجدون بين مسلمين ومسيحيين، ومن منّا يودّ إكرام عقيدته فليكرمها بطيب معشره وبحسن تعامله وبانفتاحه ومرونته
الاستاذ موريس صادق بين حرية التعبير والخيانه العظمى
قبل 13 عامًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق