أزمة الشارع المصرى اليوم والتى تتطلب التفاف كافة الأطياف السياسية والإجتماعية حول مائدة البحث ، سعياً لحل يتناسب وقدر مصر وحلم المصريين فى حياة كريمة وغد أفضل ، هى مروره بمرحلة جنى ثمار عقود طويلة مضت تراجعت فيها قيم مصرية أصيلة لحساب قيم وأعراف وأنماط حياة متصحرة لا تتفق ونسقها البشرى وموروثها الحضارى عبر رقائق الزمن المتتالية ، وشكلت هذه القيم الوافدة ردة فى عكس إتجاه حركة التاريخ ، فالتطور يتجه من البداوة إلى المدينة ، ومن الصحراء إلى الوادى الأخضر ثم الى الفضاء الصناعى التقنى ، ثم إلى الرفاهة ، عبر تطور المجتمع من النمط الأبوى إلى النمط المؤسسى ، ومن الأنظمة الثيوقراطية إلى الأنظمة الديمقراطية ، ويقاس التطور الإيجابى للمجتمع بقدر تقدم موقع الإنسان وقيمته فيه وتمتعه بالحريات الأساسية لكونه إنساناً بغير أن يرتبط هذا بما يعتقده " الدين " أو بما يملكه " الوضع الإقتصادى " أو بحسب موقعه فى المجتمع " الوضع الإجتماعى " أو بلونه أو جنسه أو أية خصائص ينفرد بها سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ، وقد تُرجم هذا فى مواثيق الدول المدنية وفى المواثيق الدولية . ولعل أهمية منظومة الحريات تلك هى التى أضفت صفة الأهمية على منظمات المجتمع المدنى ، وبخاصة مراكز وجمعيات حقوق الإنسان ، بل وتمدها بقوة التأثير لكنها تبقى بحاجة الى تفاعل الشارع الداعم لها ، وهذا بدوره مرتبط بمدى شيوع الفعل التنويرى فيه وإدراكه لقدرتها على التغيير باتجاه مجتمع الكفاية بل والوفرة عبر نسق المساواة والعدالة. وواحدة من هذه الثمار المُرّة هى ثقافة التمييز الدينى التى وجدت لها مكاناً ومستقراً فى الذهنية العامة ، تدعمت بفعل التيارات الأصولية فى شقيها النمطى والمتطرف والتى حولت فكر قاعدة عريضة فى الشارع ببطء لكن بإصرار عن الانتماء للوطن لحساب الإنتماء الدينى بل ووضعتهما موضع المقارنة والمفاضلة ، وكان لغياب المشاركة السياسية الحقيقية وموات الأحزاب وهشاشتها ، وغياب الرموز المؤثرة والقادرة على التفاعل مع اجيال الشباب وتفعيل مشاركتهم فى شأن الوطن ، كان لهذا الدور الداعم فى حرث الأرض وإعدادها لقبول ما بذرته تلك الجماعات ، وخطورة ذلك أنه وجد له مكاناً ومستقراً بل وقبولاً فى ذهنيات ومواقع يتطلب دورها وعملها الحيادية والتجرد والتى بغيرهما تصاب العدالة فى مقتل ويختل الإستقرار المجتمعى وتوازنه ، ولعل هذا ما حدا بالدول المتقدمة والمدنية ـ نصاً وواقعاً ـ أن تمنع رجل الأمن ورجل القضاء وعناصر الجيش من العمل فى حقل السياسة إلا بعد تقاعدهم ، لحتمية تمتعهم بالحيادية والإحترافية فى مجال عملهم ، وتأكيداً لقيمة وفكر وفعل المواطنة باعتبارها الأساس الذى تقوم عليه خططها التنموية المستقرة والفاعلة والمتحققة ، بل والتى قام عليها إقتصادها القوى فيما يعرف بالعالم الأول . وخطورة المنهج التمييزى أولاً أنه يستند فى تسويق منتجه إلى نصوص مقدسة ، وبالأكثر إلى تؤيلات متطرفة لتلك النصوص ، تجد قبولاً فى الأجواء المتردية إقتصادياً والمحبطة اجتماعياً وسياسياً ، وتزداد الخطورة باستخدام آليات التنوير ومنظومة الإتصالات فى ثورتها المبهرة فى ترويج ذلك المنتج ، ولعل القارئ يلمس ذلك فى بحر الفضائيات المتخصصة فى بث ثقافة التمييز وفى طوفان المواقع الالكترونية فى شبكة الانترنت الأخطبوطية التى تلقى بحممها بين الفعل ورده فى وجه المواطنة وقيم العدالة والمساواة ، غير عابئة بالنتائج المدمرة التى تقف على أبواب وطننا . وخطورة المنهج التمييزى ثانياً أنه يفرز ويؤكد روح الإستعلاء عند أصحابه استناداً إلى يقينية إمتلاكهم الحقيقة المطلقة فى مقابل تكفير الأخرين ، ويتطور الأمر إلى النزوع إلى استبعادهم من المشاركة والتعامل الحياتى وإقصائهم مجتمعياً ثم وظيفياً ومحاصرتهم كلما كان ذلك ممكناً فى وتيرة متصاعدة ، ومن طرف خفى يفقد الوطن امكانات ذلك القطاع المستبعد ويأتى هذا خصماً من تقدمه وسلامه وتوازنه ، الأمر الذى يفسر موجات الهجرة للغرب الذى يجيد استثمار هذه الطاقات كقيمة مضافة لإقتصادهم وتطورهم والأمثلة أكثر من أن تحصى ، وهنا لا نعرف هل هى هجرة أم تهجير أم إجلاء ؟! . وخطورة المنهج التمييزى ثالثاً أنه يقود الوطن إلى صدامات طائفية تبدأ على مستوى الأفراد لتتحول إلى الجماعات ثم المؤسسات لتنتهى بالحروب الأهلية الفوضوية والمجنونة ، وهى لا تبقى ولا تذر ، وكل من يقرأ دورة حياة وموات الإمبراطوريات العظمى يضع يده على الخطوة المشتركة التى كتبت كلمة النهاية لتلك الإمبراطوريات بل والحضارات أيضاً ، وهى صعود المد الدينى ليحل محل المد المدنى فى ادارة دفة الإمبراطورية ، حدث هذا مع الحضارة المصرية القديمة بشكل متقطع تخلل عصر الأسرات حتى قضى عليها ، وحدث هذا مع الإمبراطورية الرومانية بعد أن بسطت نفوذها على العالم القديم ، وتكرر مع الفُرس والبطالمة وكان وراء إنحسار المد العربى وإنهياره . وهو ما طرحه تفصيلاً ـ بدقة الباحث ودأبه ومثابرته ـ الكاتب الصحفى على ياسين فى كتابه الذى صدر قبل أيام { مصر الحضارة : 2500 سنة إحتلال ! ، أصول المصريين ـ حكام ومحكومين } الصادر عن دار الحرية ، وهو كتاب أُرشحه لمعالى وزير التربية والتعليم ليقرره على المرحلة الثانوية لتتعرف أجيالنا الواعدة على قصة حضارتهم وجذورهم ، فى عرض موضوعى وشيق ، وبلغة معاصرة استطاعت أن تفلت من جهامة لغة التأريخ التقليدية ، كيف كانوا وكيف وضعوا بصماتهم على حضارات العالم بجملته ، ومواطن الضعف ومنابت الإنهيار ، وخصائص وطنهم ، وقيمة المواطنة ودورها فى الحفاظ على وحدة الوطن بل وعلى وجوده وبقاءه ، ولم يكتف الكاتب برصد أحوال الملوك والولاة بل إنتبه إلى أهمية رصد الدور الشعبى فى مقاومة إختراق مصريته ـ كياناً وسمات ـ والزود عن هويته ورقائق حضارته والتى مازالت تومض فى لغته العامية وأمثاله الشعبية ومعدنه الأصيل الذى يظهر فى الشدائد ، بدلاً من تلك الشذرات المتناثرة والإنتقائية فى المناهج التعليمية والتى فشلت فى خلق مجال للتواصل بين الشباب وتاريخهم الحقيقى ، بل دفعتهم دفعاً لمجال عمل وتأثير الجماعات المتطرفة التى إختطفته بعد أن أوهمته بأن تاريخه الحقيقى يبدأ من الجزيرة العربية فى ربط مغرض بين الدين وبين الانتماء لغير وطنه ، وهو فعل سياسى يستخدم الدين ويسخره لتصفية حسابات تاريخية ذات دلالة يسعون لمحوها من ذاكرة التاريخ حين كانت يد مصر هى الأعلى والأكرم ، وتذخر تصريحات جماعة الإخوان بما يؤكد ذلك عندما يقول أحد مرشديها أن المسلم الأفغانى أقرب إلى المسلم المصرى من المسيحى المصرى ، وعندما يبرر آخر استبعاد المصرى المسيحى من خدمة الجيش ـ بحسب مشروعهم المراوغ ـ بعدم ضمانهم لولاء المسيحى المصرى لهم حال دخولهم حرباً يكون طرفها الأخر أحد البلدان المسيحية ، وكأنهم خارجون لتوهم من غياهب العصور الوسطى ، لكنها ثقافة التمييز وتداعياتها المتسقة مع بنيانها الفكرى . أزمة التمييز لا يجب أن تقرأ من منطلق طائفى أو لحساب طائفة ضد أخرى بل فى ضوء تداعياتها المدمرة المنتظرة على الأبواب فى عالم لا يفهم غير لغة المصالح واحترام القوى ، وكيف نصبح أقوياء فى مناخ يسعى للتفريق والإستعلاء وأمامنا القاعدة الذهبية والمختبرة أن كل مدينة منقسمة على ذاتها تخرب
الاستاذ موريس صادق بين حرية التعبير والخيانه العظمى
قبل 13 عامًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق