رفضت محكمة شبرا الخيمة شهادة مسيحي مع أحد المسلمين في القضية ١٨٢٤ لسنة ٢٠٠٨، بحجة أن المسيحي لا تجوز شهادته شرعاً علي المسلم، والمشكلة هنا لا تتعلق بقاضٍ متطرف، ولا بقضية خلاف علي ميراث قليل، ولا بمواطن مسيحي تم إهدار مواطَنته، وإنما الخطير أن الحكم، مع تعارضه مع أبسط مبادئ الدستور، يهدد بنية الدولة ويهدر نظامها القانوني ويعيدنا إلي كهوف العصور الوسطي،فالدولة ـ كما يعرفها الناس جميعا ـ مثلث يتكون من ثلاثة أضلاع، أرض وشعب ونظام ـ سندع الأرض والشعب الآن وسنتحدث عن النظام ـ فقد استقر العرف القانوني الحديث علي أن النظام لكي يستحق هذه التسمية ينبغي أن يكون مجرداً وعاما وموضوعيا، يتساوي أمامه الناس جميعا، لا فرق فيهم بين مسيحي ومسلم أو رجل وامرأة أو حاكم ومحكوم وهكذا.ولأن محمد علي باشا (١٨٠٥ - ١٨٤٨) أراد بناء دولة حديثة في مصر، فقد أدرك أن النظام هو أساس هذه الدولة الحديثة، وأن هذا النظام العام الموضوعي المجرد سيكون أداة تلك الدولة، وسيكون في الوقت نفسه أداة انعتاقها من غياهب العصور الوسطي وحكم الخلفاء الأتراك، ومن هنا فقد حرص علي اختيار معاونيه علي أساس الكفاءة والمهنية، بصرف النظر عن دياناتهم، ولقد قامت النهضة المصرية الحديثة علي أساس هذا النظام، فكلوت بك يؤسس للطب والتنظيم الصحي الحديث، والكلونيل سيف يؤسس الجيش، ودي سريزي يؤسس الأسطول، وشامبليون يؤسس لعلم المصريات، كما يستعين بالسان سيمونيين في العديد من مشروعاته التنموية.وفي الإدارة والمالية، عين محمد علي من الأقباط المصريين، باسيلوس غالي مديرا للحسابات، وبطرس أرمانيوس مديرا لمدينة برديس، وفرج ميخائيل لدير مواس، وميخائيل عبده للفشن، وتكلاسيداروس لبهجورة ورزق أغا للشرقية، وحنا المنقبادي سكرتير عموم قبلي، ووجيه إبراهيم كبيراً لكتبة ديوانه، طبعا هذه بعض النماذج لتأكيد أن بناء الدولة الحديثة يحتاج نظاماً يؤكد مبدأ المساواة بين جميع مواطني الدولة، وهو النظام الذي أرساه محمد علي، وسار عليه خلفاؤه،فجميع مجالس النواب المصرية تضم المسيحيين إلي جانب المسلمين، وجميع لجان وضع الدساتير المصرية كذلك، ولا يجد الخديو إسماعيل غضاضة في أن يكون أول رئيس وزراء لمصر، وهو نوبار باشا، مسيحياً، وتلاه في عهد عباس الثاني بطرس غالي، وفي عهد الملك فؤاد يوسف وهبة، ويتولي ويصا واصف رئاسة البرلمان، وعندما تعرض الوفد لانشقاق السبعة ونصف، كانت لجنته العليا تتكون من ثلاثة أقباط واثنين فقط من المسلمين،والوفد هو الحزب الممثل للأمة المصرية قبل يوليو ولم تعرف رئاسات منصات القضاة حتي أعلي درجاتها منذ تأسيس نظامنا القانوني الحديث أي تمييز بين مسيحي ومسلم، وجميع أبناء جيلي سيظلون يذكرون بكل العرفان القاضي العظيم المرحوم حكيم منير صليب، وحكمه الذي أدان النظام وبرأ ألفاً من المتهمين في أحداث يناير ١٩٧٧.طبعا هذا الكلام عن التاريخ ومساره، وعن تطور نظامنا السياسي والقانوني، لن يهم القاضي الذي أصدر الحكم السابق، وإنما يهم الذين يعنيهم بناء الدولة المصرية الحديثة ـ دولة المواطنة والقانون وحقوق الإنسان.والمشكلة هنا أننا لو مددنا خط هذا الحكم علي استقامته لرأينا عجب العجاب، فلن يستطيع الوزير بطرس غالي تحويل موظف متهم بالتقصير إلي الشؤون القانونية، لأنه لا ولاية لمسيحي علي مسلم، ولن يرسب طالب مسلم في مادة الجيولوجيا إذا كان أستاذه رشدي سعيد، ولن يرسب طالب مسلم في مادة العلوم الطبيعية إذا كان أستاه سمير حنا صادق، لأن التصحيح من أعمال الولاية، وبديهي ـ هنا فقط ـ أنه لا ولاية لمسيحي علي مسلم، وستهدر المحاكم جميع قضايا الفساد والقتل والمخدرات والدعارة التي شارك فيها ضباط شرطة مسيحيون، لأن تلك المحاضر نوع من الشهادات،ولا تجوز هنا أيضا شهادة المسيحي علي المتهم إذا كان مسلما، وفي مجلس الشعب سيضطر الأستاذ أحمد فتحي سرور، بدلا من كلمته الشهيرة «موافقة» إلي عد الأصوات فيقول: موافقون سبعة وتمانين، نخصم منهم أربعة مسيحيين رافعين إيديهم برضه، يبقي موافقين حسب الشريعة تلاتة وتمانين. وإذا كانت النائبة المحترمة زينب رضوان من بينهم فربما قال: الموافقون اتنين وتمانين ونص. الأمر جد لا هزل، وينبغي أن يضطرب له كل من يعنيهم أمر القانون والدولة والجماعة التي تعيش فيها، فقد سبق أن حكم قاض بالجلد، وحكم آخر بالإعدام علنا في ميدان عام، فإلي أن يفيق نظامنا من غيبوبته، هل سيتحرك وزير العدل ليقوم بوظيفته في حماية النظام القانوني،أما المستشار الكبير زكريا عبدالعزيز، رئيس نادي القضاة، وباقي إخوته من القضاة الأحرار، فإنني أقول لهم: إن الشعب قد وقف معكم في موقفكم الجسور دفاعا عن الدستور والحريات، فهل تقفون اليوم معه دفاعا عن أساس وجوده الدستوري والقانوني، علي الأقل ببيان تؤكدون فيه أن الأسس المحددة للأحكام القضائية المعتد بها هي الدستور والقانون المدني والمواثيق الدولية، أما أحكام العصور الوسطي فهي مهدرة وفي حكم العدم
الاستاذ موريس صادق بين حرية التعبير والخيانه العظمى
قبل 13 عامًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق