المتابع لحراك الشارع المصرى تنتابه موجات من الحيرة وتدور فى ذهنه العديد من الأسئلة بحثاً عن تفسير منطقى يقرأ الأحداث المتلاحقة ، وإن كان فى التفسير التآمرى حلولاً جاهزة وربما سابقة التجهيز ، بيد أنى لست من انصار اللجوء لهذا النمط من التفسيرات ، وأرى أننا نعيش زمن حصاد ما زرع عبر عقود ممتدة بدأت مع النصف الثانى من القرن العشرين ، فقد اجتاحتنا أمواج متتالية كانت ـ ومازالت ـ تنحر فى جدار الدولة المدنية بشكل حثيث فى محاولة دؤوبة لإحلال نموذج الدولة الدينية محلها ، رغم إصطدامها بالنصوص الدستورية الراسخة التى تؤكد مدنية الدولة
، وتصطدم بالموروث المصرى الشعبى المتفرد فى تأكيد التنوع عبر رقائقه المتتالية ، لكنها لم تهن أو تيأس فتعود مرات ومرات ، حتى جاءتها اللحظة التاريخية الفارقة والمواتية مع موقعة يونية 67 الكارثية ، فانقضت على الذهنية المصرية تبث فيها أن تلك الكارثة إعلان غضب السماء على شعب بَعُد عن صحيح الدين وانحرف فحق عليه العقاب ، وعاجلت المجتمع بموجات التصحر الفكرى المتربص بريادة مصر منذ فجر التاريخ ، بذات النمط التى شهدته مصر القديمة فى الفواصل الإنهزامية التى تخللت عصر الأسرات ، وهو نمط تشهد فيه البلاد صعوداً للمد الدينى المتطرف ويجلس رجل الدين بجوار رجل السلطة وربما خلف أذنه وعلى طرف لسانه ، فى مزاوجة غير شرعية ، وخلفهما رجل المال ، ويؤسس التحالف الثلاثى لمناخ الفساد وتراجع الدولة المدنية بخلخلة ثقافة سيادة القانون ، وإحلال العرف مكانها ، تحت تأثير الإنبهار بالنموذج المتصحر والقبلى رغم أن مصر لم تعرف القبيلة ككيان أو كنظام معيشى طوال تاريخها المديد ، فهى دولة مركزية حازمة ومنضبطة منذ فجر التاريخ يوم أن وحدها الملك مينا وحتى العصر الحديث .
ولعل ابرز المظاهر المحيرة تراجع الإنتماء الوطنى مفسحاً مكانه لإنتماءات أخرى منها العرقى والطبقى والدينى ، وأخطرها على الإطلاق الإنتماء الدينى وربما الطائفى والمذهبى ، ومرد الخطورة أنه يضع النسبى فى مواجهة المطلق والبشرى فى مواجهة المقدس ، وفيما هو يوظف الدينى فى تحقيق مغنم ذاتى يرمى من يسعى لترسيخ الإنتماء الوطنى بتهمة معاداة الدين ، وفى ظل الثقافة المتراجعة وغياب معايير الفصل بين هذا وذاك وخلط الأوراق المتعمد تكون الغلبة للمتطرفين بعد أن احكموا سيطرتهم على الذهنية العامة ، وكيف لا وآليات تشكيل العقل الجمعى ـ والفردى ـ قد وقعت اسيرة بين ايديهم ، وقد بح صوتنا وكاد مدادنا أن يجف من كثرة التحذيرات التى اطلقناها بحتمية مراجعة منظومات التعليم والإعلام والثقافة ومعنا العديد من المستنيرين وناشطى المجتمع المدنى ، ولم يلتفت ذوى الشأن لهذا تقصيراً أو تراخياً أو ربما عمداً أو جهلاً بخطورة بقاء الوضع على ما هو عليه .
وكان من نتيجة ذلك إندلاع الحرائق الطائفية بشكل متواتر ومتقارب بشكل نمطى سواء فى الدوافع أو فى مواجهتها والإسراع بإطفائها عبر الجلسات العرفية والتى تخمد السنة اللهب الظاهرة بينما تبقى النار تحت الرماد فتعاود الإشتعال مرة ومرات ، وفى بعض جوانبها يطل العمل الأدبى والإبداعى ـ أو من المفترض أن يكون كذلك ـ ويدخل طرفاً فى تأجيج الحرائق ولعل أقربها صدور رواية ' عزازيل ' لأستاذ جامعى يعرض لحقبة تاريخية فى القرون الميلادية الأولى يسقط من خلالها رؤيته للمسيحية والمتأثرة بشتات الروايات التاريخية التى تنال منها خاصة الرؤية النسطورية التى أجمعت الكنائس المسيحية على اختلافها على اعتبارها بدعة وهرطقة مدمرة لإيمانها وعقائدها بل ويصور شخصيات تاريخية حقيقية بكل ما الصقته بها تلك الهرطقات وتابعيها ، وفى براءة تفترض فيمن يعترض البلاهة يقول المدافعون عن الرواية أنها قصة من وحى خيال الكاتب ويجب ان تعامل بمعايير الرواية والعمل الإبداعى ، وفى رد فعل ينتمى شرعياً لزمن الإحتقان الطائفى تصدر فى مقابلها رواية ' تيس عزازيل فى مكة ' يزعم كاتبها أنه كاهن يكتب بإسم مستعار ليقوم بدوره بالتشكيك فى رسالة الإسلام معتمداً على روايات تاريخية غير محققة تنتمى إلى القرون الأولى الهجرية فى تواز مع منهج الرواية الأولى ، وكلاهما يؤصل لإستدعاء التاريخ والماضى لتدمير الحاضر وربما المستقبل أيضاً ، والقارئ المحقق للتاريخ يعلم يقيناً أنه ملئ بالألغام الموقوتة والقراءات المنحازة والإنتقائية التى تكفى لتدمير الوطن وربما العالم عشر مرات .
والأعجب ان تأتى المعالجات متناقضة إذ بينما حسبت الرواية الأولى عملاً ابداعياً ومن خيال الكاتب بل واحتفت به دوائر عديدة ، حسبت الرواية الثانية إزدراء بالأديان بل وطالب البعض الكنيسة بوجوب ملاحقة كاتبها لكونه أعلن أنه كاهن ، وتقديم اعتذار عنها ومحاكمته ، وفى ذات السياق سارع الأمن بالقبض على أحد المدونين واعتباره كاتب الرواية لكونه قام بنشرها على مدونته نقلاً عن مواقع معروفة على شبكة الإنترنت ، وهنا نقف أمام اشكالية أخرى فى إطار علاقة الأمن بالملف الدينى والقبطى تحديداً .
وغير بعيد نصطدم بواقعة أخرى تحمل العديد من المتفجرات عندما أعلنت بعض الأديرة بمنطقة وادى النطرون ـ والممتدة تاريخياً إلى القرن الرابع الميلادى ـ غلق ابوابها أمام الزائرين والرحلات حتى اشعار أخر ، بعد أن تلقت ـ وفقاً للبيان الصادر عنها ـ تهديدات من جماعات متطرفة بتدميرها ، وتمتد الخيوط الى ان تهديد التدمير جاء تأسيساً على احتجاز وفاء قسطنطين فى واحدة منها ، وهى واقعة تطرح العديد من الأسئلة هل أمن الأديرة مسئولية الرهبان والكنيسة أم هى مسئولية الدولة باعتبارها منشئات مصرية على أرض مصرية ، وأمنها شأن سيادى لا خلاف عليه ؟ ، وهل يكفى تلقى تهديدات ـ لم يكشف البيان عن وسيلة وصولها للأديرة أو مدى جديتها ـ لغلق ابواب الأديرة ، وما هو الإجراء الرسمى من قبل الدولة الذى اتخذ فى هذا الأمر سواء فى تتبع مصدر التهديد أو الإجراءات الإحترازية التى اتخذت لحماية الأديرة ، وإن كنا نؤيد قرار الإغلاق بل ونادينا به قبل أكثر من عشر سنوات باعتباره خطوة لإعادة الإعتبار للرهبنة ولضوابطها التى على رأسها اعتزال العالم وتجنيب الرهبان مصادر العثرة .لكننا نقف متحيرين فى شأن التوقيت وملابساته ، ونسأل بموضوعية عن منهج الكنيسة فى تناول أزمة السيدة محل الجدل ، وفى ظنى أنها كانت موفقة الى ابعد الحدود فى السعى وراء حماية أحدى غنمات الرعية على نسق المثال الذى ضربه السيد المسيح ـ رب المجد ـ عن الإبن الضال وعودته ، لكن التوفيق جانبها عندما اودعتها أحد الأديرة الخاصة بالرهبان ، إذ كان من الأليق ان يكون مكانها ، وفق رغبتها فى حياة العزلة ، فى واحدة من أديرة الراهبات درءاً للعديد من التداعيات ، وعلى جانب أخر نسأل عن مشروعية تدخل المفكر الإسلامى زغلول النجار فى هذه الأزمة ومدى سلطته فى اجبار الكنيسة على الكشف عن ملابسات حياة هذه السيدة واظهارها على شاشات الفضائيات ، اليس فى هذا اعتداء على حق الدولة السيادى ، وفى كل الأحوال فقد كشفت واقعة غلق الأديرة عن صورة حادة لتراجع ثقافة سيادة القانون وقد يعتبرها البعض حلقة فى سلسلة الإنتقاص من سيادة الدولة .
لهذا اتصور أننا بحاجة إلى اطلاق بروجى نوبة صحيان تعيد للإنضباط مكانته ولسيادة القانون موقعه الحاكم لكل اطياف المجتمع فى إطار العدالة والمساواة وعدم التمييز ولهيبة الدولة موقع الصدارة
، وتصطدم بالموروث المصرى الشعبى المتفرد فى تأكيد التنوع عبر رقائقه المتتالية ، لكنها لم تهن أو تيأس فتعود مرات ومرات ، حتى جاءتها اللحظة التاريخية الفارقة والمواتية مع موقعة يونية 67 الكارثية ، فانقضت على الذهنية المصرية تبث فيها أن تلك الكارثة إعلان غضب السماء على شعب بَعُد عن صحيح الدين وانحرف فحق عليه العقاب ، وعاجلت المجتمع بموجات التصحر الفكرى المتربص بريادة مصر منذ فجر التاريخ ، بذات النمط التى شهدته مصر القديمة فى الفواصل الإنهزامية التى تخللت عصر الأسرات ، وهو نمط تشهد فيه البلاد صعوداً للمد الدينى المتطرف ويجلس رجل الدين بجوار رجل السلطة وربما خلف أذنه وعلى طرف لسانه ، فى مزاوجة غير شرعية ، وخلفهما رجل المال ، ويؤسس التحالف الثلاثى لمناخ الفساد وتراجع الدولة المدنية بخلخلة ثقافة سيادة القانون ، وإحلال العرف مكانها ، تحت تأثير الإنبهار بالنموذج المتصحر والقبلى رغم أن مصر لم تعرف القبيلة ككيان أو كنظام معيشى طوال تاريخها المديد ، فهى دولة مركزية حازمة ومنضبطة منذ فجر التاريخ يوم أن وحدها الملك مينا وحتى العصر الحديث .
ولعل ابرز المظاهر المحيرة تراجع الإنتماء الوطنى مفسحاً مكانه لإنتماءات أخرى منها العرقى والطبقى والدينى ، وأخطرها على الإطلاق الإنتماء الدينى وربما الطائفى والمذهبى ، ومرد الخطورة أنه يضع النسبى فى مواجهة المطلق والبشرى فى مواجهة المقدس ، وفيما هو يوظف الدينى فى تحقيق مغنم ذاتى يرمى من يسعى لترسيخ الإنتماء الوطنى بتهمة معاداة الدين ، وفى ظل الثقافة المتراجعة وغياب معايير الفصل بين هذا وذاك وخلط الأوراق المتعمد تكون الغلبة للمتطرفين بعد أن احكموا سيطرتهم على الذهنية العامة ، وكيف لا وآليات تشكيل العقل الجمعى ـ والفردى ـ قد وقعت اسيرة بين ايديهم ، وقد بح صوتنا وكاد مدادنا أن يجف من كثرة التحذيرات التى اطلقناها بحتمية مراجعة منظومات التعليم والإعلام والثقافة ومعنا العديد من المستنيرين وناشطى المجتمع المدنى ، ولم يلتفت ذوى الشأن لهذا تقصيراً أو تراخياً أو ربما عمداً أو جهلاً بخطورة بقاء الوضع على ما هو عليه .
وكان من نتيجة ذلك إندلاع الحرائق الطائفية بشكل متواتر ومتقارب بشكل نمطى سواء فى الدوافع أو فى مواجهتها والإسراع بإطفائها عبر الجلسات العرفية والتى تخمد السنة اللهب الظاهرة بينما تبقى النار تحت الرماد فتعاود الإشتعال مرة ومرات ، وفى بعض جوانبها يطل العمل الأدبى والإبداعى ـ أو من المفترض أن يكون كذلك ـ ويدخل طرفاً فى تأجيج الحرائق ولعل أقربها صدور رواية ' عزازيل ' لأستاذ جامعى يعرض لحقبة تاريخية فى القرون الميلادية الأولى يسقط من خلالها رؤيته للمسيحية والمتأثرة بشتات الروايات التاريخية التى تنال منها خاصة الرؤية النسطورية التى أجمعت الكنائس المسيحية على اختلافها على اعتبارها بدعة وهرطقة مدمرة لإيمانها وعقائدها بل ويصور شخصيات تاريخية حقيقية بكل ما الصقته بها تلك الهرطقات وتابعيها ، وفى براءة تفترض فيمن يعترض البلاهة يقول المدافعون عن الرواية أنها قصة من وحى خيال الكاتب ويجب ان تعامل بمعايير الرواية والعمل الإبداعى ، وفى رد فعل ينتمى شرعياً لزمن الإحتقان الطائفى تصدر فى مقابلها رواية ' تيس عزازيل فى مكة ' يزعم كاتبها أنه كاهن يكتب بإسم مستعار ليقوم بدوره بالتشكيك فى رسالة الإسلام معتمداً على روايات تاريخية غير محققة تنتمى إلى القرون الأولى الهجرية فى تواز مع منهج الرواية الأولى ، وكلاهما يؤصل لإستدعاء التاريخ والماضى لتدمير الحاضر وربما المستقبل أيضاً ، والقارئ المحقق للتاريخ يعلم يقيناً أنه ملئ بالألغام الموقوتة والقراءات المنحازة والإنتقائية التى تكفى لتدمير الوطن وربما العالم عشر مرات .
والأعجب ان تأتى المعالجات متناقضة إذ بينما حسبت الرواية الأولى عملاً ابداعياً ومن خيال الكاتب بل واحتفت به دوائر عديدة ، حسبت الرواية الثانية إزدراء بالأديان بل وطالب البعض الكنيسة بوجوب ملاحقة كاتبها لكونه أعلن أنه كاهن ، وتقديم اعتذار عنها ومحاكمته ، وفى ذات السياق سارع الأمن بالقبض على أحد المدونين واعتباره كاتب الرواية لكونه قام بنشرها على مدونته نقلاً عن مواقع معروفة على شبكة الإنترنت ، وهنا نقف أمام اشكالية أخرى فى إطار علاقة الأمن بالملف الدينى والقبطى تحديداً .
وغير بعيد نصطدم بواقعة أخرى تحمل العديد من المتفجرات عندما أعلنت بعض الأديرة بمنطقة وادى النطرون ـ والممتدة تاريخياً إلى القرن الرابع الميلادى ـ غلق ابوابها أمام الزائرين والرحلات حتى اشعار أخر ، بعد أن تلقت ـ وفقاً للبيان الصادر عنها ـ تهديدات من جماعات متطرفة بتدميرها ، وتمتد الخيوط الى ان تهديد التدمير جاء تأسيساً على احتجاز وفاء قسطنطين فى واحدة منها ، وهى واقعة تطرح العديد من الأسئلة هل أمن الأديرة مسئولية الرهبان والكنيسة أم هى مسئولية الدولة باعتبارها منشئات مصرية على أرض مصرية ، وأمنها شأن سيادى لا خلاف عليه ؟ ، وهل يكفى تلقى تهديدات ـ لم يكشف البيان عن وسيلة وصولها للأديرة أو مدى جديتها ـ لغلق ابواب الأديرة ، وما هو الإجراء الرسمى من قبل الدولة الذى اتخذ فى هذا الأمر سواء فى تتبع مصدر التهديد أو الإجراءات الإحترازية التى اتخذت لحماية الأديرة ، وإن كنا نؤيد قرار الإغلاق بل ونادينا به قبل أكثر من عشر سنوات باعتباره خطوة لإعادة الإعتبار للرهبنة ولضوابطها التى على رأسها اعتزال العالم وتجنيب الرهبان مصادر العثرة .لكننا نقف متحيرين فى شأن التوقيت وملابساته ، ونسأل بموضوعية عن منهج الكنيسة فى تناول أزمة السيدة محل الجدل ، وفى ظنى أنها كانت موفقة الى ابعد الحدود فى السعى وراء حماية أحدى غنمات الرعية على نسق المثال الذى ضربه السيد المسيح ـ رب المجد ـ عن الإبن الضال وعودته ، لكن التوفيق جانبها عندما اودعتها أحد الأديرة الخاصة بالرهبان ، إذ كان من الأليق ان يكون مكانها ، وفق رغبتها فى حياة العزلة ، فى واحدة من أديرة الراهبات درءاً للعديد من التداعيات ، وعلى جانب أخر نسأل عن مشروعية تدخل المفكر الإسلامى زغلول النجار فى هذه الأزمة ومدى سلطته فى اجبار الكنيسة على الكشف عن ملابسات حياة هذه السيدة واظهارها على شاشات الفضائيات ، اليس فى هذا اعتداء على حق الدولة السيادى ، وفى كل الأحوال فقد كشفت واقعة غلق الأديرة عن صورة حادة لتراجع ثقافة سيادة القانون وقد يعتبرها البعض حلقة فى سلسلة الإنتقاص من سيادة الدولة .
لهذا اتصور أننا بحاجة إلى اطلاق بروجى نوبة صحيان تعيد للإنضباط مكانته ولسيادة القانون موقعه الحاكم لكل اطياف المجتمع فى إطار العدالة والمساواة وعدم التمييز ولهيبة الدولة موقع الصدارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق